حي فرن الشبّاك، على مسافة ربع ساعة من مشية خليل العرجاء، كوخ حقير جدرانه من أخشاب صناديق الكاز، وماركات الشركات ما تزال محفورة عليها بالأحمر والأزرق والأسود، بعضها محفوظ سالم، والبعض الآخر أكلت ثلاثة أرباعه السنون. وللكوخ سقف من تنك الكاز أيضاً، وللتنكات قهقهة ساخرة عندما تهبّ الرياح، وبينها ثقوب ينزل فيها المطر فيحوّل الكوخ في الشتاء الى مستنقع.
هذه القطرات من المطر هي كلّ ما تذكر به السماء ساكني الكوخ !
لأن الأعرج ليس وحده فيه، بل هو تحت حماية العمّ ابراهيم. شحّاد متقاعد، بين الخمسين والخامسة والخمسين من عمره، نعميح، مقصوف الظهر، ملتوي الذقن الى الشمال، بارز الأسنان – كتلة من الخرق والعظام المحطّمة ملقاة في زاوية الكوخ.
كان الليل قد أظلم، وأقفرت طريق فرن الشبّاك الاّ من بعض التراموايات ينعس فيها ركّابها القليلون، وتمرّ على الخطّ مسرعة، محدثة عليه شرراً متطنعماً وأزيزا ًموجعاً. وكان الأعرج يمشي على حافة الطريق مسروراً ببساط الغبار لا يؤذي رجله العوجاء التي تتلقّى وطأة جسمه دون الأخرى. كلّما تقدّم ضاعف قلبه دقّاته، لأن العمّ ابراهيم رجل قاس لا يعرف الرحمة، يحب أن ترجع يده من يد الأعرج بخمسين قرشاً كلّ مساء. وكان الصبي يحسب القروش التي جمعها طول نهاره فلا تبلغ الاّ سبعة وعشرين قرشاً، فيزيد خوفه وترتعد فرائصه.
وأبى الأعرج أن يصدّق حساب النهار الذي كان قد قام به أكثر من عشر مرّات. فلمّا وصل تحت المصباح الكهربائي المعلّق على المحطّة الأخيرة من محطّات الترامواي أخرج القروش من جيبه وأخذ يعدّها مرة أخرى، فاذا هي سبعة وعشرون قرشاً، لم تزد شيئاً قط ! فأعادها الى مكانها وهو يرفّ بعينيه وقد همّتا بالبكاء، وواصل مشيته ببطء كأنّه يقدّم رجلاً ويؤخّر الثانية.