توفيق يوسف عواد
” كلّ ذي عاهة جبّار“
كان اسمه خليل. ولكن الناس لا يعرفونه بهذا الاسم. هم يسمّونه الأعرج، حتّى كاد ينسى هو نفسه اسمه الحقيقي.
ولا أحد يعرف من أبوه وأمه وأين مسكنه. نكرة من النكرات، شحّاد من ملاعين الدنيا، قذفته الحياة قذفاً، كالماّر على رصيف يبصق بصقة ثم يدوسها ويتابع الطريق.
في الثالثة عشرة من عمره، على وجهه بقع من الغبار المزمن، وأخاديد من الذلّ. يجرّ، طول النهار وقسماً كبيراً من الليل، رجله العوجاء من مكان الى مكان. الرجل اليمين مفتولة عند الركبة الى الوراء يدوس بها الأرض على ابهامه، والابهام صخمة شققّها المشي على الحصى، وعشّش بين شقوقها وحل الشتاء الماضي.
كلّما خطا خطوة اندفع رأسه الى الأمام وراء العرجة اندفاعة تكاد تخلع رأسه من بين كتفيه. وهو مضطّر الى الدوران في الشوارع، من شارع الى شارع، ومن دكّان الى دكّان، من رجل الى رجل، ومن امرأة الى امرأة، ويمدّ كفّه ويبتسم ابتسامته الباكية.
رفاقه الشحّادون، صغاراً وكباراً، لكّل واحد منهم أغنية يردّدها على المحسنين. يطلبون من اللّه أن يطّول لهم عمرهم، أن يخلّي لهم عافيتهم ، أن يعوّض عليهم، أن يرزق المرأة ولداً والفتاة عريساً، وأن يكافئهم خيراً في الآخرة. يثرثرون دائماً، ويلصقون بالمحسنين لصقاً، فلا ينزعهم الاّ القرش.
أما هو فلا يجيد الثرثرة بل يبقى صامتاً كالأخرس. لولا ابتسامته الحزينة، ولولا عيناه الناطقتان بألف لغز ولغز من ألغاز الطفولة المقهورة، ولولا يده الممتدّة، الراجفة، الممصوصة كورقة الخريف، لولا ذلك لظنّه الناس صنماً.
والبشر يحبّون الثرثرة، يحبّون الدعاء، لا يعطون الصدقة الاّ بثمنها عدّاً ونقداً. ولكن الأعرج لا تتحرك له شفتان بدعاء ولا رجاء، كأنما في قلبه ايمان بأن له على هؤلاء البشر ضريبة. يمدّ كفّه الى واحد، ثمّ يجوز الى غيره جارّاً رجله العوجاء. واذا ظفر بقرش أو نصف قرش حدّق اليه وقلّبه ثم وضعه في جيب قمبازه القذر المرقّع، ومشى.
* * * *