كان عليه أن يصل. استقبله العمّ ابراهيم، حسب العادة. وراء قنديل الزيت الضئيل المتماوجة أظلاله على جدران الكوخ، قائلاً :
- تعال هنا، هات الحساب !
كان العمّ ابراهيم على طرّاحته في الزاوية، مسمّرا عليها، لا يستطيع حراكاً الاّ بيديه فهما له رجلان
أيضاً. فحمل الأعرج القنديل وجاء به فركع أمام الطرّاحة، وأخذ يعدّ القروش واحداً وراء واحد، ويفتش في قعر جيبه وينفضها ليؤخّر غضب العمّ ابراهيم. ولكّن العمّ ابراهيم كان واقفاً على كلّ حركة وسكنة من الصبي، فأرسل اليه نظرة من عينيه الحمراوين الملتهبتين وصاح به :
- سبعة وعشرون قرشاً من أوّل النهار الى آخره ! أنت تلعب كلّ الوقت يا أعرج اللعون. لك ثلاث عشرون عصاً. حساب مضبوط.
وكشّر، ولوى ذقنه الى الشمال فوق ما لواه اللّه، ولبث منتظراً الأعرج. كان الأعرج يعرف ما يجب عمله في مثل هذه الحال : كلّ قرش ينقص عن الخمسين بعصاً. والعصا معلّقة في الحائط. فنهض من ركعته ودنا من الحائط، وجاء بالعصا فسلّمها الى العمّ ابراهيم ووقف أمامه مكتوف اليدين. فرفع الجلاد عصاه السوداء السمينة، وطفق يضرب بها الأعرج ضرباً له نظام : ضربة على الكتف اليمنى، وثانية على اليسرى، وأخرى على القفا، ورابعة وخامسة على الرجل العوجاء. والأعرج يعدّ العصي بصوت عال : واحد، اثنان، ثلاثة…خمسة…تسعة، وهو يخنق الصراخ خنقاً. فاذا صرخ ضوعف له العقاب. والدموع تسيل على خدّيه، وخدّاه يتجعدّان، وعيناه تتواريان وراء صور الألم المرتسمة على وجهه، وفمه يندلق، ودمه يفور في أوداجه ويوشك أن يفتّقها تفتيقاً.
وهو ما يزال في الضربة العاشرة من الحساب ! وعبثاً كان يحاول اقناع عمّه بأن الناس لا يدفعون. عبثاً كان يقول له انّهم يعطونه نعمر الخبز… انّ العمّ ابراهيم كان يجيبه :
- اضرب بالرغيف من يعطيك ايّاه على وجهه !